الجمعة، 22 يوليو 2011

الدوّامة الجهنّميّة لربا التمويل الأجنبي لتونس

أثناء فترة حكم بن علي, اقترضت تونس أموالا و باعت قطاعات من اقتصادها (وهو ما يُسمّى بالاستثمار الأجنبي المباشر) لتستهلك وخاصّة لتدفع ربا دينها الخارجي و ربا أرباح الاستثمارات الأجنبيّة المباشرة. على سبيل المثال, هذه معطيات سنة 2007 حسب البنك العالمي و المعهد القومي للإحصاء. وهي آخر معطيات ثابتة متوفّرة لدينا, بالدينار التونسيّ. بقيّة السنوات في العقد الماضي تتشابه مع سنة 2007

رسم بياني: جملة مصادر العملة الصعبة لتونس سنة 2007

رسم بياني: جملة استعمالات العملة الصعبة لتونس سنة 2007

هكذا يتبيّن أنّ تونس إثر سنة 2007 احتاجت إلى تمويل أجنبي جديد, وهو متكوّن من ديون جديدة و استثمارات أجنبيّة جديدة, بقيمة 1,5 مليار دينار لتغطية عجزها المالي في تلك السنة. هذا التمويل الجديد بمقدار 1,5 مليار دينار متكوّن من قروض و استثمارات أجنبيّة. بالتالي ينجرّ عنه ربا (بعنوان الدين الجديد و بعنوان أرباح الاستثمارات الجديدة) يُضاف في سنة 2008 إلى ربا سنة 2007 قدره, كما يبيّن الرسم, 0,6 + 2 = 2,6 مليار دينار.

نلاحظ أنّ جملة مصادر العملة الصعبة في سنة 2007 , دون احتساب التمويل الأجنبي, وهي 24,3 + 2,2 = 26,5 مليار دينار, تفوق ما تحتاجه البلاد من واردات و قد بلغت 25,4 مليار دينار. يتّضح إذا أنّ العجز المالي سببه هو أساسا ربا الدين الخارجي و ربا الاستثمارات الأجنبيّة. و هذه هي الحال في أغلب سنوات العقد الماضي.

أستعملُ هنا مصطلح “ربا” لنعت أرباح الاستثمارات الأجنبيّة لأنّ أغلبها تتحقّق بالدينار التونسيّ و لكن تونس, بحكم قرار البنك المركزيّ التونسيّ حول تحويل أرباح الاستثمارات الأجنبيّة من الدينار إلى العملات الصعبة (منشور البنك المركزي التونسي عدد 17_93), تدفع هذه الأرباح بالعملة الصعبة لا بالدينار. لذا لا يمكن اعتبار هذه الأرباح كجزء من المداخيل الحقيقيّة للاستثمارات, وهو الشرط المتّفق عليه كي تكون الأرباح غير ربويّة. بالتالي اعتبرت تحويل أرباح بالدينار إلى عملات صعبة, ربا.

كلّ سنة يُضاف الربا الجديد إلى ربا الديون و الاستثمارات الأجنبيّة القديمة. و مادامت البلاد عاجزة على دفع هذه المبالغ, فهي تغطّي ذلك الربا الجمليّ بطلب تمويل أجنبي جديد (قروض و استثمارات أجنبيّة). ثمّ يُضاف ربا التمويل الجديد إلى الربا القديم. وهكذا يتفاقم مبلغ الربا من سنة إلى السنة. هذه هي الدوّامة الجهنّميّة لربا التمويل الأجنبيّ لتونس.

حسب معطيات المعهد القومي للإحصاء, من سنة 1990 إلى سنة 2007 دفعت تونس للأجانب 13 مليار دينار بعنوان ربا الاستثمارات الأجنبيّة في حين أنّ جملة رؤوس الأموال الوافدة إلى تونس بعنوان الاستثمارات الأجنبيّة من سنة 1990 إلى سنة 2007 بلغت 15,4 مليار دينار. يعني أنّ ما قبضته تونس لا يفوق كثيرا ما دفعته. المشكل هو أنّ أموال الربا يجب أن تدفعها البلاد كلّ سنة خلافا لرؤوس الأموال التي تقبضها البلاد مرّة واحدة عند قبول الاستثمار. يعني أنّه يجب علينا في المستقبل إعادة دفع مبلغ 13 مليار عدّة مرّات في حين أنّنا لا نستطيع إعادة قبض مبلغ 15,4 مليار إلاّ بقبول المزيد من الاستثمارات, يعني بيع المزيد من قطاعات اقتصادنا. كمثل رجل باع داره بِ 15,4 مليار و اكتراها من المشتري بثمن 13 مليار لمدّة معيّنة . بقي له بعض الأموال فتمتّع بها و صرفها. لكن عند انتهاء المدّة, وجد نفسه مضطرّا أن يبيع ملكا آخرأو يقترض لخلاص الكراء!

إذا نظرنا إلى النوع الآخر من التمويل الأجنبي, وهو الدين الخارجي , فالوضع ليس أقلّ استنزافا لثروات البلاد. كان أصل الدين الخارجي عند ابتداء سنة 1990 أقلّ بقليل من 7 مليارات من الدنانير. و دفعت تونس من سنة 1990 إلى سنة 2007 تقريبا 9,5 مليارات من الدنانير بعنوان الربا على هذا الدين الخارجيّ. رغم ذلك, بمفعول تزايد الربا الذي لم يقع تسديده بعد, تضاعف الدين الخارجي إلى أن وصل إلى أكثر من 25 مليار دينار في سنة 2007!

توضيحا لسرعة تضاعف ربا الاستثمارات الأجنبيّة, لنقارن نسق نموّه بنسق نموّ جملة الاقتصاد. حسب المعهد القومي للإحصاء, كانت أرباح الاستثمارات الأجنبيّة الصافية في حدود 000 300 726 دينار سنة 2000. ثمّ بلغت 000 700 516 2 دينار سنة 2008. أثناء نفس المدّة الزمنيّة, انتقل الناتج الداخلي الخام من 000 900 650 26 دينار إلى 000 000 506 49 دينار. ممّا يبيّن أنّ هذه الأرباح الربويّة تضاعفت بنسبة 3,47 حين لم يتضاعف الناتج الداخلي الخام إلاّ بنسبة 1,85!

السبب الرئيسيّ هو أنّ مردوديّة الاستثمارات الأجنبيّة أكثر من معدّل مردوديّة الاقتصاد الوطنيّ. بحيث يمكن القول بأنّالاستثمارات الأجنبية تمتصّ زبدة الاقتصاد الوطنيّ و ترحل بها إلى الخارج. يُقال أحيانا أنّ الاستثمارات الأجنبية “تخلق القيمة” ولكن الصواب هو أنّ القيمة هي التي تخلق الاستثمارات الأجنبيّة التي تأتي فتحتكرها و ترحل بها.

إنّ أهم ّالأسباب لبقائنا في التخلّف الاقتصادي هو اللجوء إلى الاستثمار الأجنبي الغير مصدّر إذ أنّ تأثيره سلبيّ جدّا على الميزانيّة الخارجيّة للبلاد بسبب تصدير أرباحه. فهو يزحف على أحسن مصادر الربح في اقتصادنا و يحرمنا منها و ينفع بها دول أجنبيّة, في حين أنّها السبيل الوحيد الذي نملكه لتغذية تراكم الرأس مال الإنتاجي الضروريّ لإخراجنا من التخلّف.

على سبيل المثال, لننظر إلى قطاع الهاتف الجوّال. في هذا القطاع الأرباح تمثّل تقريبا 30% من رقم المعاملات. بحيث عندما يشتري مواطن تونسيّ بطاقة هاتف جوّال بقيمة 10 دنانير, يسجّل القطاع ربح بقيمة 30% من 10 دنانير يعني 3 دنانير. بيع هذا القطاع إلى الأجانب يجعل هؤلاء يطلبون من البنك المركزيّ تحويل هذا الربح إلى عملة صعبة (دولار أو يورو أو يان…). لكن البنك المركزيّ لا يماك العملة الصعبة لأنّ الميزانيّة الخارجيّة للبلاد عاجزة (بحيث مصاريف البلاد الخارجيّة أكثر من مداخيلها الخارجيّة كما يبيّن ذلك الرسم أعلاه). ممّا يضطرّ البنك المركزيّ إلى اقتراض المبلغ المطلوب للقيام بالتحويل المطلوب. بالتالي إذا قوّمنا رقم المعاملات السنويّ للقطاع بمليار دينار, نرى أنّ بيع هذا القطاع إلى الأجانب يُضيف 300 مليون دينار إلى الدين الخارجي للبلاد في السنة الأولى للبيع. و في السنة الموالية, يُضاف من جديد مبلغ 300 مليون دينارإلى الدين الخارجي و الربا على هذا المبلغ, ثمّ بعد سنة, 300 مليون دينار و الربا و الربا على الربا…إلى آخره.

إنّ الدول التي نجحت في حماية تراكم رؤوس الأموال المنتجة عبر التاريخ, و إن استوجب الأمر حربا, هي التي أصبحت دولا غنيّة و ذات إنتاجيّة قويّة. هذه هي حال بريطانية منذ القرن 19, ثمّ الولايات المتّحدة و ألمانيا واليابان وفرنسا و مؤخّرا بعض الدول الآسيوية كالصين.

ليس من الصواب أن نقول أنّه ما زال لتونس هامش للاقتراض الخارجيّ. يُزعم أنّ نسبة التداين الخارجي للبلاد أقلّ من %50. لكن ذلك يُخفي أنّ نظام بن علي استبدل التمويل عن طريق الدين الخارجي بالتمويل عن طريق الاستثمار الأجنبي وهو أبهظ تكلفة من الدين الخارجي. إذا أخذنا بعين الاعتبار الاستثمار الأجنبي ضمن نسبة التداين, كما يجب أن نفعل لتقييم قدرتنا الحقيقيّة لتسديد ديوننا, لوصلنا إلى نسبة تداين تفوق 100%. باستبدالنا الدين الخارجي بالاستثمار الأجنبي, كما يقول المثال الشعبي, هربنا من قطرة جينا تحت الميزاب.

أيضا ليس من الصواب أن نقول أنّ النسبة (خدمة الدين/الصادرات), وهي مستعملة عادة في تقارير المؤسسات المالية العالمية, تشير أنّ ما زالت هناك إمكانيّة للاقتراض. صادراتنا, إذا طرحنا منها الواردات, لا تكفي حتّى لدفع ربا الديون والاستثمارات, ناهيك تسديد أصل الديون. في الواقع, ما دامت تجارتنا و ميزانيتنا الخارجيّة في عجز, ليس لنا أي هامش لقبول تمويل أجنبي إضافي إن لم يكن هذا التمويل موازي لمشروع إنتاجي له انعكاس واضح و مباشر على زيادة التصدير. لا جدوى في تمويل أجنبي غير مصحوب بمشروع تصدير إلاّ في حالة طوارئ قصوى كمثل خطر مجاعة. وإن وصل بنا الأمر إلى هذا الحدّ, فإذًا لا بدّ من وضع خطّة حكوميّة صارمة للوصول إلى الاكتفاء الغذائي في أجل محدود.

لكن إذا تفحّصنا إحصائيات تجارتنا الخارجيّة, لسنا في خطر مجاعة, ولو دامت اضطرابات الثورة. بالفعل, صادراتنا الثابتة (بعد طرح الواردات من نفس القطاعات) تتجاوز 2,5 مليار دينار (النسيج والفسفاط). فهي تُغطّي وارداتنا الحيويّة الصافية (الغذاء, الدواء, الطاقة, قطع الغيار) التي لا تتجاوز مليارين دينار (بعد طرح الصادرت من نفس القطاعات, حسب معطيات المعهد القومي للإحصاء لسنة 2009).

نظرا للتأثير الكارثي للاستثمار الأجنبي غير المصدّر على ميزانيتنا الخارجيّة, وهو يُغرقنا أكثر فأكثر في الديون و في بيع قطاعاتنا المُربحة, يجب أن لا نقبل إلاّ الاستثمارات الأجنبية المُصدّرة. فقط هذا النوع من الاستثمار لا يخلّ بميزانيتنا الخارجيّة.

بصفة عامّة, يجب أن لا نقبل أيّ تمويل أجنبي إلاّ إذا استطعنا أن نوظّفه في مشروع مصدّر تمكّننا أرباحه من إرجاع الأموال و دفع تكلفة التمويل. هذا يحجّر قبول تمويلات أجنبيّة لتحسين خدمات الإدارة أو “للمجتمع المدني” أو “لدعم الديمقراطية” أو للتعليم أو للبنية التحتيّة

دون اتخاذ احتياطات من هذا القبيل في إدارة التمويل الأجنبي لبلادنا ، سوف نُدخل البلاد في اتجاه يكون فيه السبيل الوحيد لاحترام التزاماتنا هو بيع المزيد من القطاعات. ما جرى لليونان يجب أن يجعلنا نحتاط من إغراءات الغرب. فالغرب له قدرات إنتاجيّة تفوق حاجياته ممّا يجعله سيظلّ دائما يسعى لترويج سلعه. لا يكلّفه ذلك عناء كبيرا ولو لم يسترجع ثمن بضاعته. بالعكس, عندما يدفع الطرف الآخر إلى الإفلاس, فهو يعزّز سيطرته عليه.

كانت ديون اليونان قبل أزمة 2009 تبلغ 100 مليار يورو. للخروج من الأزمة توخّت اليونان سياسية إسراف في الاستهلاك و الانفتاح التجاريّ ضنّا منها أنّها سوف تحدّ من البطالة. النتيجة هي تفاقم الواردات و العجز التجاري و تراكم الديون والتمويلات الأجنبيّة و تزايد رباها. ديون الينان تقدّر اليوم بحوالي 300 مليار يورو! وصقور النظام المالي العالمي يتهافتون عليها ليتقاسموا ثرواتها.

لنتّخذ العبرة من دروس التاريخ كي لا نعيد نفس الأخطاء. بعد ثورة علي بن غداهم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر, غرق باي تونس في الديون ليُرضي شعبه و يسيطر عليه. لم تمرّ 20 سنة عن الثورة حتّى زادت نفوذ القوى المموّلة وهي فرنسا وإطاليا, إلى درجة أنّها تخاصمت للسيطرة على تونس. وصل الخصام إلى اجتياح الجيش الفرنسي لتونس إثر بيع الباي لهنشير النفيضة لإطاليا, ممّا أثار غضب فرنسا. و دام احتلال فرنسا لتونس 75 سنة و لم تخرج إلاّ بعد كفاح طويل و مرير و بعد ما ارتكبت ما شاءت من المظالم والقهر و إراقة دماء أبناء هذا الوطن و بعد ما امتصت ما شاءت من خيراته.