الثلاثاء، 9 أغسطس 2011

تحديات تواجه مشروع دمقرطة الإعلام التونسي

عندما قام السيد الباجي قايد السبسي رئيس الحكومة التونسية المؤقتة بتعنيف إحدى مذيعات القناة الوطنية التونسية لأنها برأيه قد تجاوزت حدود مهنتها، فإنه كان في واقع الأمر يكشف عن عقلية المسئول الرسمي السائدة، التي وإن أعلنت انتماءها للفكر الديمقراطي وصرحت بذلك لفظا في الخطب والمؤتمرات الصحفية، لكنها تظل في عمقها تعتقد بأن الإعلام المملوك للدولة يجب أن يكون ناطقا باسم الحكومة وتوجهات النظام السياسي القائم، وليس باسم الشعب و المجموعة الوطنية.
ويظهر أي طموح تونسي إلى بناء علاقة بين النظام السياسي والصحافة المرئية والسمعية العمومية، شبيهة بتلك القائمة في بريطانيا مثلا بين الحكومة في 10 دوانغ ستريت و مؤسسة "بي بي سي"، ضربا مضحكا من الخيال، فالأمر لا يتعلق بمجرد قوانين يمكن أن تراجع و تغير على نحو النموذج البريطاني، إنما بثقافة سقيمة تعشش في أوساط الساسة و البيروقراطيين وأشباه الإعلاميين، ممن يملكون من مهارات التآمر والانقلاب والانحراف ما يجعل أي مراجعات أو تغييرات قانونية شكلية فاقدة لأي معنى عملي أو جدوى فعلية.
ولئن وجدت قنوات التلفزيون الوطني سندا قويا في مطالبة النقابة التونسية للصحفيين المتكررة لأجهزة الحكم الانتقالي باعتبارها مؤسسات إعلام عمومي، تعود ملكيتها إلى الشعب التونسي ويفترض بها تمثيل مصالحه لا مصالح الحكومة، فإن قنوات التلفزيون الخاص، التي بقيت عددا وعدة وعناوين على حالها، منحصرة في قناتي "حنبعل" و "نسمة"، فإنها في رأيي ستظل مستعصية على أي تغيير مادامت نظره أصحابها إليها، هي نظرة أي شخص مالك إلى مزرعته الشخصية الخاصة، سواء تعلق الأمر ب"باعث القناة" أو ب"الابن البار" صاحب "الأب الحنون".

لماذا الجمود؟
وفي الوقت الذي يمكن تبرير الجمود الذي ميز حالة الانتقال الديمقراطي على المستوى السياسي بضرورة الصبر و المصابرة و انتظار الموعد الانتخابي في 23 أكتوبر/تشرين الأول القادم، الذي يفترض أن يفرز قيادة ذات شرعية شعبية وديمقراطية للبلاد، فإن لا شيء يمكن أن يبرر حالة الجمود التي سادت المشهد الإعلامي، بحيث بقي التونسي مجبرا على مشاهدة القنوات الممجوجة ذاتها، وسماع الإذاعات ذات الملكية المشبوهة نفسها، وصدى مديحها الزائف وتمجيدها الخرافي للرئيس السابق والنظام النوفمبري، لم يغادر مخيلته أو يبتعد عن أذنيه بعد.
وإن الخوف على مشروع الانتقال الديمقراطي ليتعاظم، عندما يدرك المهموم بمستقبل بلاده، أن لأي عملية تحول نحو الديمقراطية وجهان أو متطلبان أساسيان لا مناص من تزامن تحققهما، أحدهما الظاهر البين الجلي المتمثل في تجديد النظام السياسي عبر عملية انتخابية ديمقراطية، شفافة ونزيهة، وثانيهما الباطن مستتر وغير تقليدي، المتمثل في إعادة بناء حالة الإعلام بهدف تحصين المجتمع و تمكينه من أخطر سلطة وأداة للرقابة والنقد والتوجيه والاقتراح وإسقاط الحكومات وإرهاب السلطات و الحيلولة دون تغولها.
ومن المفارقات المفزعة ممكنة الحدوث، أن أي تماطل في دمقرطة الإعلام إلى جانب دمقرطة السياسة، قد يزود ما يسمى بمراكز وأوكار الثورة المضادة بأهم و أخطر أسلحتهم ووسائلهم في إفراغ مضمون الثورة وعملية الانتقال الديمقراطي من محتواهما، و في إعداد الرأي العام لأي مشروع انقضاض سياسي جديد، على نحو ربما يصبح معه أي حكم ديكتاتوري أو عسكري في مقام الضرورة الوطنية والحاجة الشعبية.
ولا شك أن الانقلاب المريع الذي لوحظ على محتوى برامج القناتين التونسيتين الخاصتين، سواء فيما يتصل بوقوفهما الدائم إلى جانب وجهات النظر الحكومية، أو محاولة بعضهما للترويج مجددا لنماذج تلميع شخصي ركيكة ومناشدات سياسية بليدة شبيهة بتلك التي كانت سائدة في العقود الماضية، يؤكد استعداد القائمين على هذه المؤسسات الإعلامية، للتخلي عن المشروع الديمقراطي في أول اختبار حقيقي، ونفض التزاماتهم الثورية عند أول صفقة معروضة.
ولن يكون بالمقدور لوم "باعث القناة" أو "الابن البار" أو أيا ممن هم على نفس الشاكلة، لأن أحدا من بينهم لم يرتبط بهذا المشروع يوما، أو حتى كانت لديه القدرة على تصور مفهوم الإعلام الديمقراطي أو تخيل وظيفته ومسؤولياته، وكل ما أحدثته الثورة بالنسبة لهذا النوع من أصحاب القنوات و الإذاعات، أنها عوضت "بن علي" ب"الشعب" و"تحول 7 نوفمبر" ب"ثورة 14 يناير"، ولو كانت عوضته بزيد أو عمر، لكان هذا الزيد أو العمر سيد الحكام و تاج الرأس و الأب الحنون والنظام المثالي.
وعلى الرغم من كثرة عناوينه الجديدة بالنظر إلى رخص تكاليفه مقارنة بالإعلام السمعي والبصري، فإن الإعلام التونسي المكتوب لم يختلف أمره، فرؤساء تحرير الصحف اليومية التي كانت تهلل وتكبر للرئيس السابق وعنايته الموصولة ودفء شمسه الذي يبزغ على كل تونسي، لم يجدوا في مجملهم أي حرج في مواصلة الاضطلاع بمهامهم على رأس مؤسساتهم، التي تحولت وظيفتها إلى التلذذ بترديد كلمة "المخلوع" و الشماتة في "الطرابلسية" و بيان جرائمهم التي لا تعد ولاتحصى، و ليس من بينها بطبيعة الحال الإكراميات التي كانت تغدق على أصحاب القلم حماة ظهر النظام.
ويواجه مشروع دمقرطة الصحافة التونسية المكتوبة تحديات جمة لعل من أهمها غياب المستثمر الوطني الواعي بأهمية الإعلام الديمقراطي، وهيمنة لوبيات و مافيات و بؤر تابعة للنظام السابق على قطاعات ذات صلة وثيقة بصناعة الصحافة الورقية من قبيل التوزيع والطباعة والإعلان، وضعف التأهيل على مستوى الموارد البشرية التي حرمت من تكوين و تعليم صحافة حرة وديمقراطية طيلة عقود، فضلا عن انتماء جل القيادات الصحفية ثقافة وعقلية و سلوكا إلى مدرسة "الديكتاتور" و تلوث الكثير منها بصفقات أو مؤامرات أو انحرافات العهد السابق، وعجزها المفترض وافتقادها لأي قدرة بالتالي عن قيادة مشاريع صحفية جديدة تستجيب لتطلعات ما بعد الثورة ومسؤولياتها الجسام، باعتبارها كما قال أحدهم من "بقايا الحرب الباردة" أو "العهد البائد".
ودون خضوع لأي منطق تشاؤمي، فإن المعركة التي تنتظر التونسيين في المجال السياسي، لا تقل خطورة أو مصيرية عن تلك التي تواجههم على الصعيد الإعلامي، و على الجيل الثوري الجديد في تونس أن لا يتخلى عن خوض معركته على الجبهتين، و أن يعمل على الاضطلاع بدوره بشجاعة على جبهات التغيير الديمقراطي المتعددة، وعلى رأسها الإعلام و السياسة..من العيب على شباب تونس أن يسلموا مصيرهم و ثورتهم لديناصورات الحياة العامة، ممن لم يشبعوا بعد من لعق الدماء و إفراغ جيوب الفقراء، فمكان هؤلاء الطبيعي متحف الماضي لا مراكز القرار المستقبلي.

خالد شوكات