الأحد، 12 مايو 2013

مبناها يخنق شارع بورقيبة: هل يجب نقل «الداخلية» ؟



على امتداد اكثر من عامين لم تفارق الاسلاك الشائكة شارع بورقيبة بالعاصمة على مستوى وزارة الداخلية. ورغم ان الامر يتعلق بالشارع الرئيسي للعاصمة وللبلاد بشكل عام ، إلا أن الدولة اختارت «التضحية» بجماليته وبرمزيته التاريخية والثورية وبمكانته السياحية على حساب أمن وأمان وزارة الداخلية وركزت فيه الاسلاك الشائكة ، الأمر الذي حول مبنى الوزارة بدوره إلى عبء ثقيل على شارع بورقيبة في راي كثيرين .. وهذا ما جعل البعض يتساءل ، لماذا لا يقع « اخراج » وزارة الداخلية من هذا الشارع حتى يسترجع جماليته وقيمته التاريخية ويحافظ على رمزيته الثورية وعلى استقراره؟
جمالية ..وتشويه
يعتقد كثيرون ان مبنى وزارة الداخلية يمثل – من حيث الشكل - تشويها لجمالية شارع بورقيبة. فهو في رأيهم بمثابة الجسم الغريب عن الشارع بسبب عدم تناسقه مع محيطه واختلاف تصميمه وألوانه مع بقية المباني ، وفق ما يقوله الاخصائيون في المجال العمراني. ويذكر الاخصائيون في هذا المجال مثلا كثرة نوافذه المطلة على الشارع المذكور وكذلك مشهد أجهزة الالتقاط العملاقة والاسلاك والهوائيات المركزة فوق سطح المبنى ومشهد الحراسة الامنية المحيطة بالمبنى على مشارف الشارع ، وهي كلها تنقص من جمالية الشارع الرئيسي للعاصمة وتجعله مختنقا .
ازعاج السواح
من حيث المضمون ، اصبح مقر وزارة الداخلية في شارع بورقيبة ، في راي الملاحظين ، في غير محله ايضا . فـ«لافيني» كما يحلو للتونسيين تسميته يعتبر مسلكا سياحيا رئيسيا بالعاصمة يمر منه يوميا عشرات السواح ، خصوصا انه يضم عديد الفنادق والمطاعم والمقاهي ذات الطابع السياحي إلى جانب الكنيسة المسيحية وسفارة فرنسا وعديد المؤسسات الخدماتية الاخرى مثل البنوك ووكالات الاسفار. وهذا من شأنه ان يجعل من تواجد وزارة الداخلية به امرا «مزعجا» للسائح الاجنبي خاصة عندما يرى الاسلاك الشائكة تحيط به من كل مكان ويرى الحراسة الامنية مشددة عليه فيفقد بالتالي الشعور بالأمن والامان ويعتقد باستمرار ان المكان عرضة في اية لحظة لاندلاع احداث عنف او غيرها.
الحرية ..على اطلال القمع
من جهة اخرى ، يُعد شارع بورقيبة شارعا ثقافيا وفنيا بامتياز، وهو ما يوحي للوهلة الاولى بالحرية ( حرية الابداع ) باعتباره يحتوي عديد دور السينما وتوجد بالانهج المتفرعة عنه دور ثقافة ومسرح إلى جانب احتوائه أعرق مبنى مسرحي في البلاد وهو المسرح البلدي . وعادة ما يحتضن هذا الشارع التظاهرات الثقافية الكبرى التي تنتظم ببلادنا مثل ايام قرطاج المسرحية والسينمائية وغيرها. اما المقاهي المنتشرة به فعادة ما يجتمع فيها المثقفون والمبدعون والادباء والشعراء والفنانون والممثلون.. وبالتالي فان تواجد وزارة الداخلية على بعد امتار من هذا المشهد الثقافي والابداعي من شانه ان يفسد على مرتادي الشارع ( من مبدعين وفنانين ومثقفين ..) الاحساس بالحرية . فمبنى وزارة الداخلية يحيل كثيرا منهم إلى ذكريات مؤلمة خلال سنوات القمع وفقدان الحرية التي عانى منها بعضهم خلال النظامين السابقين ما يجعل تواصل وجوده هناك إلى اليوم بمثابة ذكرى مؤلمة تفسد عليهم فرحتهم اليوم بالحرية .
ذكرى مؤلمة
يحمل العديد من المعارضين ومساجين الرأي ذكريات مؤلمة عن زنازين وأقبية وزارة الداخلية ويستحضرون الآلاف من روايات التعذيب والقمع وحالات موت. ولم يعد مقبولا في راي كثيرين استحضار هذه الذكريات بشكل يومي كلما مروا من شارع بورقيبة ، لذلك يرون من الافضل نقلة هذه الوزارة إلى مكان آخر . 
متحف 
مباشرة بعد الثورة طالب البعض بان يقع تحويل المقر الحالي للداخلية إلى متحف وطني يسجل نضالات المساجين السياسيين ويؤرخ للفترة الديكتاتورية والمرعبة للسلطة الأمنية المتنفذة طيلة أكثر من نصف قرن . وجاء هذا المقترح بناء على ما حصل في بعض دول ديمقراطية شهدت انتقالا ديمقراطيا مثل ألمانيا وجنوب إفريقيا بعد حقبتي النازية و«الأبترتايد» حيث تحولت مباني وزارات الامن والبوليس إلى متاحف وطنية.
النقلة ممكنة ..لكن
تقول وزارة الداخلية التونسية إنها لا تمانع - من حيث المبدأ - في نقل مقرها من شارع الحبيب بورقيبة وسط العاصمة إلى مكان آخر . غير ان الوزارة اكدت سابقا أن عملية انتقال مصالح الوزارة بما فيها من تجهيزات وبنية تحتية للاتصالات ، ستكون مكلفة جدا من الناحية المادية فضلا عن ضرورة توفير مبنى جديد يتسع لكل المصالح التابعة للوزارة التي توجد لها اليوم مقرات في الانهج القريبة من المبنى الرئيسي الحالي بشارع بورقيبة . وهو ما لا يعتبر أولوية في الوقت الحالي في نظر الحكومة .غير أن مصادر مطلعة لا تنفي امكانية نقل الداخلية إلى مقر آخر ، على الأقل على المدى المتوسط.
مساع لمحو ذكريات الالم
تجدر الإشارة إلى أن وزارة الداخلية شرعت بعد أشهر من الثورة في عملية تحسين للصورة القاتمة لمبناها بشارع بورقيبة في خطوة اولى لمحو صور الماضي الاليم الراسخة لدى البعض بسبب تواجد هذا المبنى . من ذلك مثلا انها بادرت بفتح الزنزانات وغرف الإيقاف والتعذيب أمام الرأي العام ونظمت زيارات إطلاع لتلاميذ وسمحت لهم بالرسم على جدران الغرف والدهاليز.

شــارع المظاهـــرات والأحــداث
أقيم شارع بورقيبة منذ أواخر القرن التاسع عشر، في عهد الحماية الفرنسية ،وآنذاك حمل اسم شارع البحرية Avenue de la Marine ثم بداية من عام 1900 حتى الاستقلال أصبح اسمه شارع جول فيري Avenue Jules-Ferry. وبداية من 1956 أصبح اسمه شارع الحبيب بورقيبة ، ويقتصر التونسيين اليوم على تسميته « لافيني « l’avenue.
وشهد الشارع منذ اقامته أحداثا تاريخية وحوادث كبرى منها دخول الجيش الفرنسي الى باب بحر في 8 أفريل 1881، لاستعمار البلاد . كما شهد خلال فترة بورقيبة، احداثا أخرى كبرى منها، حوادث جوان 1967 التي تظاهر فيها التونسيون ضد اسرائيل خلال حرب الأيام الستة وقاموا بحرق أملاك ومتاجر اليهود التونسيين في شوارع العاصمة. كما شهد انتفاضة العمال أو ما عرف بالخميس الأسود في 26 جانفي 1978. وفي 03 جانفي 1984 شهد الشارع كذلك ما عرف بأحداث انتفاضة الخبز . ثم شهد أكبر مظاهرة في الثورة التونسية وذلك يوم 14 جانفي 2011 ورُفع فيها شعار «ديقاج»أمام مقر وزارة الداخلية وانتهت بسقوط نظام بن علي في مساء اليوم نفسه .

تونس  (الشروق)