السبت، 15 ديسمبر 2012

حركة 'المناطق' أو انتفاضة 'تونس العميقة'

وضعت الأحداث الدمــــوية التي عاشتها ولاية سليانة مؤخرا، مسيرة الانتقال الديمقراطي في تونس مجددا أمام امتحان صعب، شجع بعض المحللين إلى الذهاب بعـــيدا في تـــقديراتهم، إلى درجة قال معها بعــضـــهم أن تونس مقبــــلة على ثورة جديدة سيكون على رأس أولوياتها تصحــــيح المسار الذي آلت إليه ثورة 14 يناير 2011، وإعادة بناء الأهـــداف الثورية ليكون على رأسها مجددا المطلب التنموي والاجتـــماعي، الذي كان في واقع الأمر الدافع الأساسي وراء انهيار النظام السابق ورحيل بن علي.
لقد جاءت أحداث ولاية سليانة أكثر قساوة من حيث عنف المواجهة بين المواطنين المنتفضين وقوات الأمن، قياسا بتلك الأحداث التي شهدتها ولاية سيدي بوزيد مهد الثورة قبل أسابيع قليلة، ومن قبلها ولايات أخرى تمثل ما يمكن تسميته ب'تونس العميقة'، والتي رفعت جميعها ذات الشعارات التنموية والاجتماعية، وانتهت في مجملها بطرد الوالي، الذي رمز دائما في نظر السكان المحليين للسلطة المركزية، وحمل بشكل مباشر مسؤولية مواصلة سياسة التهميش والتسويف، أو سياسة 'الحقرة'، المصطلح الذي شاع استعماله في الأوساط السياسية والأكاديمية، وأضحى عنوانا لهذه المعركة غير المعلنة بين المناطق المرفهة على الساحل والمناطق المحرومة في أعماق البلاد التونسية.
و لكي نفهم جيدا العوامل المحركة لانتفاضة تونس العميقة، التي بلغت ذروتها في سليانة، لكنها مؤهلة لمزيد من التداعيات في الأيام القادمة، لا مناص من التوقف جيدا عند ذلك الشعور بالضيم والغبن الذي يسيطر على أذهان ساكنة المناطق الداخلية التونسية والأحزمة الفقيرة في هامش المدن التونسية الكبرى، وخصوصا الشرائح الشابة من بينها، فشباب ولايات سليانة وسيدي بوزيد والقصرين وقابس وتطاوين ومدنين وقفصة والكاف وسواها، يعتقدون بشكل جازم أن 'ثورتهم الاجتماعية' سرقت منهم، وحرفت إلى 'ثورة سياسية' لم يجدوا أنفسهم فيها، حيث وزعت كعكتها على رموز النخب السياسية في المعارضة السابقة، وبقيت المناطق المحرومة السابقة على حالها، بل إن أوضاعها الاجتماعية والمعيشية ازدادت خلال الأشهر الماضية، وتحديدا منذ صعود الإسلاميين إلى السلطة، سوءا وتعقيدا.
بالحديث إلى شباب سليانة وسيدي بوزيد وسائر المناطق المنتفضة على حكم الإسلاميين اليوم، لا يجـــدون غضاضة في القول بأنهم لم يقوموا بالثورة على نظام بن علي من أجل إرجاع الشيخ راشد الغنوشي من لندن أو الدكتور منصف المرزوقي من ملجئه في باريس، بل بالثورة من أجل تصحيح المعادلة التنموية المختلة بين 'تونس الساحلية' و'تونس العميقة'، والتي دفعت طيلة الخمسين عاما الماضية بثمانين بالمائة من الموارد التنموية للأولى في حين لم تخصص للثانية سوى العشرين بالمائة الباقية، مما كرس حيفا تراكميا خلف اختلالا صارخا بين الطرفين على أكثر من صعيد، لعل أبرزه البنى التحتية ونسب البطالة ذات الفوارق الصارخة.
ولأن طبيعة الثورة التونسية كانت اجتماعية في المقام الأول، حيث كانت أحلام الشبيبة الثائرة متصلة بمطالب تشغيل نصف مليون عاطل عن العمل، أو على الأقل تمتيعهم بمساعدات اجتماعية وقروض وهبات لبعث مشاريع تنموية، إلى جانب مكافحة الفساد والرشوة ومحاسبة المفسدين وتصحيح أوضاع الفقراء والمحتاجين وبسطاء العمال والمزارعين، فإن الطبيعة السياسية التي منحت للثروة من حيث التركيز على إجراء انتخابات نزيهة وشفافة وتشكيل حكومة منبثقة عن نتائج تلك الانتخابات وكتابة دستور جديد للبلاد وسن قوانين جديدة تكرس الديمقراطية وحقوق الإنسان، لم تجد صبرا أو تفهما كبيرين لدى الشرائح الاجتماعية الفقيرة في المناطق المحرومة.
لا شك أن وظيفة الحكومة التي شكلها الإسلاميون التونسيون قبل عام تقريبا، في تصحيح وضعية اجتماعية مختلة نتجت عن خمسين عاما من التنمية غير المتوازنة، لم تكن غير وظيفة مستحيلة، لكن ما جعل الأزمة تستفحل إلى درجة تهدد باندلاع ثورة ثانية، هو الأداء 'الكارثي' لجل أعضاء هذه الحكومة، الناجم عن محدودية تجربتهم وتواضع كفاءتهم وارتكاب قيادتهم لعديد الأخطاء القاتلة، لربما كان أبرزها تعيينات فاشلة لكثير من المسؤولين الجهويين كالولاة والمعتمدين (المحافظين والقائممقاميين)، ممن اعتمد في اختيارهم على عنصري القرابة الدموية والولاءات الحزبية.
لقد اكتشف الرأي العام التونسي خلال أزمة سليانة الأخيرة أن الوالي الجديد لم يكن سوى ابن شقيقة رئيس الحكومة حمادي الجبالي، بينما لم يكن الوالي الجديد لسيدي بوزيد سوى مسؤول محلي سابق وكانت تصرفات المسؤولين في السلطة الجهوية السبب الرئيسي في اندلاع الثورة الشعبية ضد الحكم السابق، والتي اندلعت شرارتها الأولى كما هو معلوم يوم 17 ديسمبر 2010 من مدينة سيدي بوزيد بعد أن احرق الشاب محمد البوزيدي نفسه أمام مركز الولاية.
ويشير عديد خبراء التنمية في تونس، إلى أن العامل الثاني الذي استفز سكان سليانة وغيرها من ولايات 'تونس العميقة'، تبني حكومة حركة النهضة وحليفيها حزبا 'المؤتمر' (CPR) و'التكتل'(Al-TAkattol) لنفس المفاهيم التنموية المعتمدة خلال العهد السابق، حيث نظر إلى عمليات ترميم الفصول الدراسية والمراكز الصحية وتوسيع الطرقات في المناطق الزراعية وسواها، باعتبارها مشاريع تنموية، فيما كانت انتظارات السكان متطلعة إلى مشاريع إنتاجية تقوم بتشغيل عشرات الآلاف من الشباب العاطلين عن العمل، خاصة منهم أولئك الذين تخرجوا من الجامعات والمعاهد العليا.
و يكفي القول بأن ولاية كسليانة، تعد من الناحية الرسمية، الولاية الأكثر فقرا في الجمهورية، وكذا الحال بالنسبة لولاية سيدي بوزيد، لم تعرف بعد ما يقارب السنتين من نجاح الثورة إقامة أي مشروع إنتاجي قادر على استيعاب ألف عامل فقط، وأنه لم تظهر للساكنة المحلية أي إشارات أو أمارات تشير إلى أن واقعهم الاجتماعي الصعب مقبل على تغيير إيجابي حقيقي في الأيام أو الأشهر المقبلة، وأن كل ما تلقوه من السلطات إلى حد الآن لا يعدو أن يكون مجرد وعود فضفاضة لا شيء يشجع في الواقع على تصديقها.
إن حكومة حركة النهضة اختارت بدل سلك سبيل الحوار مع الفرقاء السياسيين والنقابيين، سبيل مواجهة السكان المحليين في سليانة وشقيقاتها في تونس العميقة بالعنف الشديد، مستعملة أسلحة وأدوات قمعية جديدة لم يسبق استعمالها، بالإضافة إلى توجهيها الاتهام مجددا للقيادات النقابية ومن أسمتهم بـ'فلول' النظام السابق، وتصوير الأمر على أنه فصل من فصول 'الثورة المضادة'، وهو سبيل لا يمكن أن يفضي إلا لتعميق حالة الاحتقان والاستقطاب ودفع البلاد نحو المجهول.
والرأي أن حركة المناطق في تونس، هي حركة اجتماعية حقيقية ذات أهداف عادلة، وستجد بلا شك من سيدافع عنها ويرفع شعاراتها ويدعو إلى تحقيق أهدافها، ما دام الاختلال التنموي على صعيد الجهات موجودا ومادام في تونس مواطنون يشعرون بأنهم من درجة ثانية على الرغم من أنهم هم من قاموا بالثورة أصلا، هذه الثورة التي مكنت مواطني الدرجة الأولى من تسلق كرسي الحكم، فالمعركة ستستمر في تونس ما استمرت مناطق تونس العميقة بلا تنمية أو كرامة.
د. خالد شوكات

القدس العربي