الجمعة، 27 مايو 2011

تونس بعد الثورة.. هل سقطت دولة البيروقراطية؟


لا شيء يؤكد اليوم بأن الإدارة تسير عكس ما كانت عليه بالأمس، زمن الدولة والحزب الواحد في نفس الوقت. فبعد نحو خمسة أشهر على أحداث الثورة ليس هناك حسم في أغلب الملفات الوطنية الحساسة، فالنزيف الإقتصادي مستمر والسخط الإجتماعي يزداد تفاقما كما ان العملية السياسية تزداد تعقيدا مع تضارب القرارات حول موعد انتخابات المجلس التأسيسي.

الكثير من الوقت تم استنزافه في تشكيل ملامح الحكومة المؤقتة بنسخاتها الثلاثة ومثله أهدر في تحديد أعضاء الهيئة العليا للإصلاح السياسي والإنتقال الديمقراطي، وأكثر من هذا فإن الانفلات الأمني المتواتر ساهم في تأجيل أو تعليق أغلب المشاريع سواء تلك المتعلقة بالتنمية أو بالعدالة او تلك المرتبطة بتصريف شؤون الناس في ظل حالة التكلس الإداري.

وفي الواقع فإن فعل الثورة وحده ليس ضمانة لميلاد دولة ديمقراطية، فما لم يكن هناك إيمان بشفافية الدولة والمؤسسات الدستورية الجديدة لما بعد الثورة فإن الأمر قد يسير في نهاية المطاف باتجاه انتكاسة حتمية.

وليس هناك أخطر على نجاح الثورات من استمرار الخضوع الى "سلطة المكاتب" ونعني بذلك البيروقراطية وما يمكن ان تشكله من خطر على نسف اي مشروع انتقالي ديمقراطي أوحياة سياسية ديمقراطية.

فكثير من الفقهاء في القانون والسياسة مثلا يصنفون دولة الهند على أنها الدولة الديمقراطية الأكبر في العالم قياسا الى حجمها البشري غير أن هذا العملاق ومن الناحية التطبيقية لمفهوم الديمقراطية يعتبر قزما امام النموذج السويسري.
ولا علاقة في الواقع لهذه المقارنة بمقاييس التطور المعتمدة لتصنيف الدولتان، بل على العكس فالايمان بالديمقراطية وبمبادئها في الحياة السياسية يكاد يكون نفسه سواء في الهند أو سويسرا لكن الفوارق الشاسعة تكمن في طبيعة سير المؤسسات التي تشكل جهاز الدولة ومدى فعالية النظام البيروقراطي المعتمد.

ومع أن الفكر البيروقراطي ارتبط وجوده بالفكر الليبرالي والثورة الصناعية وأساسا بالتنظيم الإداري للدولة الحديثة، من حيث هو أداة لتسيير دواليب الدولة، الا أنها أصبحت لاحقا تمثل مشكلة في المجتمعات التي تخضع نظم الحكم فيها فعليا الى سلطة الشعب. حيث تزيد البيروقراطية المعقدة في انفصال الدولة عن المجمتع لتصبح خاضعة الى سلطة البيروقراطيين ولمصالحهم الشخصية.

وقد تكون البيروقراطية السليمة كما عرف ذلك ماكس فيبر أحد رواد علم الاجتماع السياسي، التعبير العقلاني للنظام الرأسمالي والميكانيزم المحرك لعمل الرأسمالية باعتبارها توفر الاستقرار والكفاءة الإدارية لكن من مفارقات التاريخ أن تكون الأنظمة الشيوعية، على الرغم من مقت منظريها وعلى رأسهم كارل ماركس للنظرية البيروقراطية، ان تكون من القلاع الحصينة التي قامت على انماط متطرفة من الإدارة البيروقراطية انتهت في الأخير بانهيارها بشكل تراجيدي.

ولكن من الناحية الواقعية فإن البيروقراطية كما ذهب الى ذلك جون ستيوارت مل لم تكن مجرد تنظيم حكومي أو جهاز اداري في الدولة بل باتت شكلا من أشكال الحكم او صفة تطلق على نظام حكم تميزا له عن أنظمة أخرى كالديمرقراطية او الأرستقراطية.

ولعل هذا النظام هو الأقرب الى النموذج التونسي ما قبل الثورة وهو مستمر الى حد الآن. فـ"دولة الفساد" كما يطلق عليها الآن في عهد بن علي كثيرا ما رفعت شعار اللامركزية الإدارية والاقتصادية وكثيرا ما تحدثت عن أولوية الإستثمار والإمتيازات الجبائية والقانونية لكن اتضح للجميع قبل سقوط النظام ومنذ سنوات كيف أن النظام البيروقراطي تحول شيئا فشيئا الى نظام ضيق فاشل يقوم على فكر مافيوي.

واذا ما نظرنا أكثر فإن البيروقراطية مفهوم واسع جدا لكنه في دولة بن علي كانت مظاهره منتشرة في جميع مناحي الحياة من حيث انتشار المحسوبية والرشوة وافتقاد الكفاءات والتزوير والفساد داخل الإدارة والنهب المنظم لمقدرات البلاد من قبل الدائرة الضيقة للطغمة الحاكمة.

والواضح أن أبرز الدروس التي لم يقع الإستفادة منها الى الآن بعد الثورة هو كيف أن فساد النظام البيروقراطي ساهم بشكل مباشر في مراكمة حالة السخط الاجتماعي.

والخوف كل الخوف أن يستمر الوضع البيروقراطي الحالي في مراوحة مكانه لأن تونس كما أنها لا تحتمل المزيد من الهزات فإنها كذلك ليست مؤهلة لاحتمال المزيد من البيروقراطية والفراغ الإداري والهزات الإجتماعية.

فكما الدولة تبحث عن استعادة هيبتها فإن الناس يبحثون عن استعادة كرامتهم وتأمين خبزهم اليومي.

وفي ظل الافتقاد الى اي حالة انفراج سياسي وحكومي في الوقت الحالي فإنه يمكن توقع الأسوأ في الفترة القادمة خاصة اذا صدق ما قاله مؤخرا وزير التخطيط والتعاون الدولي عبد الحميد التريكي من ان نحو تسعين بالمئة من مجموع الهبات والقروض والمنح التي تحصلت عليها تونس بعد الثورة والمقدرة بـ 1.4 مليار دولار سيقع سحبها وصرفها في غضون شهر جويلية.

ومعنى ذلك أن الرابحون في انتخابات مجلس التأسيسي قد يجدون أنفسهم في نهاية المطاف في مهمة بناء ديمقراطية بخزائن خاوية.
طارق القيزاني:العرب اون لاين