الاثنين، 23 مايو 2011

تناقضات المرحلة الانتقالية في تونس ومصر

عبد الإله بلقزيزبعد أربعة أشهر على نجاح الثورة في تونس، وثلاثة أشهر على نجاحها في مصر، وما في جوف هذه الفترة الزمنية القصيرة من مخاضات وتناقضات، يملك القارئ اليقظ في وقائعها أن يلحظ جملة من الظواهر المتباينة في مشهد الثورتين يمكن تصنيفها إلى ثلاث ظواهر كبرى، ليس بينها تناسُب أو انسجام، وليس واضحاً حتى الآن أيها سيفرض أحكامه على المرحلة المقبلة، ولا كم ستستغرق الثورة من زمن حتى تتبدد لحظة الغموض في مشهدها فتكسب الطور السياسي منها قبل أن تفتح طريق التغيير على مستويات البناء الاجتماعي الأخرى: الاقتصادية والاجتماعية والثقافية .

الظاهرة الأولى والأساس، أن الثورة في البلدين لا تزال تعيش لحظتها الانتقالية، إن على صعيد وقائعها أو على صعيد مؤسساتها . فأما وقائعها، فهي حتى اللحظة في حال من السيولة بحيث تنهمر مستجدات من غير انقطاع، ولا يخلو بعضها مما يفجأ ويُرْبك التحليل، مثلما لا يخلو بعضها الآخر مما يعزز الاعتقاد بالتطور السليم والمفتوح لمجرى الثورة .

وأما مؤسساتها، فهي حتى اللحظة مؤقتة و”توافقية” وأحياناً قائمة بقوة الأمر الواقع، الحكومة مؤقتة، و”الرئاسة” مؤقتة، والتشريع بعد حل البرلمان استثنائي ومؤقت، والأحكام الدستورية مؤقتة . . الخ .

ومعنى ذلك كلّه أن الثورة لم تَبْرح بعد لحظتها الأولى الابتدائية: لحظة الهدم، بل الحق أنها لم تنجز مهمات اللحظة هذه كافة . ومن النافل القول إن الوضع الانتقالي للثورة في البلدين يمكن أن يكون مفتوحاً على الاحتمالات كافة، بما فيها الأسوأ لا سمح الله، والاحتمالات هذه تطالعنا في الظاهرتين التاليتين .

الظاهرة الثانية، أن الثورة في مصر وتونس ما زالت مستمرة الدينامية والفعل ولم تتوقف حركتها الإنتاجية أو استنفدت طاقتها الدافعة حتى الآن في البلدين . وهي علامة صحة ومؤشر إيجابٍ فيها، وتعبير أمين عن هويتها كثورة، فالثورة أية ثورة لا تنتهي بمجرد إطاحة نخبة سياسية حاكمة من موقع السلطة . وهي حيث تتوقف عند هذه الحدود، لا تكون ثورة ولا تستوفي شروط الثورة أو ينطبق عليها معناها العميق والحقيق . وحالة الثورتين التونسية والمصرية إنما تدلنا على هذا المعنى العميق، فالثورتان ما توقفتا عند حدود إسقاط حاكم وبطانة سياسية فحسب لكي تستبدل به حاكماً آخر، وإنما جاوزت ذلك إلى توليد ثورات فرعية داخل الثورة أنجزت من طريقها حلقات أخرى مثل إسقاط المؤسسات السياسية الموروثة عن العهد البائد (البرلمان) أو المعدلة لتبدو متساوقة مع الحقبة الثورية (الحكومة المؤقتة)، حلّ الأجهزة الأمنية المرتبطة بالنظام وذات التاريخ الأسود (مباحث أمن الدولة، الأمن الرئاسي، الأمن السياسي)، حلّ الحزب الحاكم كاحتياطي سياسي اجتماعي لبقايا النظام (“التجمع الدستوري”، “الحزب الوطني”)، محاكمة رموز الفساد في العهد البائد والتحقيق مع الرئيس المخلوع وأفراد عائلته (كما في مصر) . التعديلات الدستورية الانتقالية في انتظار صوغ دستور جديد بعد انتخاب هيئته التأسيسية . والمؤكد أن هذه الاندفاعة الثورية لم تنحسر بعد على الرغم ما يكبحها من تطورات أخرى سلبية معيقة كالتي سنشير إليها في الفقرة التالية .

أما الظاهرة الثالثة في مشهد اللحظة الجارية من الثورة، فمجافية للظاهرة الثانية، ومجدفة ضد تيار مكتسباتها . وهي تتمثل في حالتين سلبيتين ومتفاوتتي النتائج: أولاهما ما يعتمل في صفوف قوى الثورة من تناقضات حول خيارات السياسة والرؤية إلى شكل المستقبل السياسي لتونس ومصر في ما بعد المرحلة الانتقالية . وهي تناقضات طبيعية في كل ثورة، غير أن استفحالها إلى حدود قصّية والعجز عن توليد قواعد سليمة لاستيعابها وحلّها، ثم سوء إدارتها بحكمة وروحية ديمقراطية، كل ذلك يهدد بإدخال قوى الثورة في حال من المنازعات السياسية التي قد تستنزفها وتطيح بفُرص التنسيق والتفاهم بينها، بل قد توسع من الشروخ والفتوق في نسيجها . وثانيهما حال الأمن المستباح في تونس ومصر بعد الثورة، ودور بقايا قوى النظامين البائدين في الضغط على الاستقرار الهش في البلدين، وفي توتير الأجواء السياسية، أو الإيقاع بين الجماعات الاجتماعية المختلفة على مثال الإيقاع بين المسلمين والأقباط في مصر، وتحريك أدوات احتياط سياسية لإرباك حركة الانتقال الديمقراطي مثل الجماعات الدينية المنغلقة والمعادية للديمقراطية . . إلخ . وإذا كانت الحالة الأولى قابلة للاستيعاب متى علا معدل المسؤولية والحرص على مستقبل الثورة في صفوف قواها، فإنه يُخشى من أن الفشل في استيعابها سيغذي الحالة الثانية المتعاظمة اتساعاً، ويمكّنها من أسباب كسب رهانها التخريبي .

هذه ظواهر ثلاث تتنازع السيطرة في مشهد اللحظة الابتدائية للثورة في مركزيها التونسي والمصري . من المبكّر القطع في شأن الصورة التي ستستقر عليها الأمور في النصف الثاني من عام الثورة هذا (2011)، وكم سيأخذ غموض الوضع القائم من زمن قبل أن تكسب الثورة حلقتها الأولى السياسية فتفتح أمامها سبيل الحلقات الأخرى المتبقية . إذا كان المستوى السياسي من مستويات الثورة سيأخذ وقتاً قبل أن تستقر نجاحاتها على صعيده، فكيف بالحريّ نستعجل الحديث عن النتائج الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؟

* نقلا عن "الخليج" الإماراتية