الأحد، 2 سبتمبر 2012

الإعلام والاستبداد الرخو

أطلق الرئيس التونسي "المنصف المرزوقي" صيحة إنذار قوية ضد ما سماه "هيمنة حزب النهضة" على الأوضاع العامة في البلد محولة شريكيها في الائتلاف الحكومي إلى طرفين هامشيين لا حضور لهما ولا تأثير. الصيحة نفسها أطلقها حمدين صباحي، أحد رموز المشهد المصري الجديد، الذي فاز بالمركز الثالث في الانتخابات الرئاسية محذراً من احتكار جماعة "الإخوان المسلمين" لكل مراكز القرار والسلطة بعد فوز مرشحها محمد مرسي الذي نجح مؤخراً في التغلب على خصومه داخل المؤسسة العسكرية.

تزامن التحذيران مع تحولات كبرى متشابهة شهدها المشهد الإعلامي في البلدين. في تونس اعتقلت السلطات مدير تلفزيون خاص بث في شهر رمضان المنصرم برنامجاً ساخراً طال بعض القيادات الحاكمة، في الوقت الذي عينت حكومة "حمادي الجبالي"، تسعة مديرين جدد للقنوات الإذاعية العامة في إطار حملة معلنة "لتطهير" الإعلام العمومي والتحكم فيه وعينت مشرفاً مسؤولاً عن يومية "الصباح" العريقة، وأثارت التعيينات المذكورة امتعاضاً واسعاً في الحقل الإعلامي.
حدث الأمر ذاته في مصر بتعيين مديرين جدد لما يقرب من خمسين مؤسسة من مؤسسات "الصحافة القومية"(أي الصحافة العمومية التي تملكها الدولة)، سعياً للتحكم في هذه الماكينة الإعلامية الهائلة، في الوقت الذي تم إيقاف صحفي مصري بتهمة "الإساءة" لمقام الرئيس، وهدد البعض الآخر بمتابعات مماثلة.
حدثت هذه التطورات في مرحلة شهد البلدان أول انتخابات تعددية لا طعن في نزاهتها وشفافيتها أوصلت قيادات حاكمة شرعية للسلطة بعد عقود طويلة من الأحادية والاستبداد.
ولذا فان السؤال الجوهري المطروح يتعلق بتحديد وصف وطبيعة الإجراءات القمعية أو التمييزية، التي تتخذها حكومات شرعية، وفق نظم وآليات قانونية ومعيارية مقبولة شكلياً.
وكان الفيلسوف الفرنسي "ألكسيس دي تكتوفيل" قد حذر في القرن التاسع عشر في كتابه حول "الديمقراطية الأميركية" من نهج "الديمقراطيات الاستبدادية"، التي تتكئ على الشرعية الديمقراطية والقبول الشعبي العام لممارسة بعض أشكال القمع والإقصاء والتسلط الخفية.
من هذا المنظور، يتعين التذكير بأن العلاقة بين مفهومي "سيادة الشعب" (الإطار النظري والمرجعي لفكرة الديمقراطية) و"التمثيل" (آلية الانتخاب العددي) لم تكن في بدايتها محسومة، ولا بديهية في الفكر الديمقراطي الغربي.
لقد اعتبر فلاسفة الديمقراطية، وفي مقدمتهم "جان جاك روسو" أن التمثيل مناف لمفهوم الإرادة الحرة ولسيادة الأمة المتجسدة في "الإرادة المشتركة"، معتبراً أن اختزال الشعب في هيئة تمثيلية محدودة يفضي حتماً إلى أحد أنماط الاستبداد الخطيرة.
بيد أن تجارب الأحكام الثورية الشعبوية العنيفة والدموية التي ادعت التماهي مع الشعب والتعبير التلقائي عن روحه اقتضت اللجوء تدريجياً إلى الآلية الانتخابية طلباً لوسيلة عملية وتوافقية لحسم الصراع السياسي سلمياً.
بيد أن هذا التحول حدث في ظرفية تاريخية برزت فيها ضمانات ثلاثة أساسية تحد من النزوع الاستبدادي للأغلبيات المنتخبة، أولاً :تشكل مناخ فكري ليبرالي تعددي تحكمه قيم التنوير النقدية، يوفر سياجاً ثقافياً قوياً للنظام السياسي ورصيداً أيديولوجباً خصباً للقوى الفاعلة في الحقل العام. فلا ديمقراطية بدون نقاش عمومي حر، أي ما عبر عنه الفيلسوف الألماني "هابرماس" بمقولة "ميدان الفعل التواصلي"، الذي هو مجال تصادم وتعايش التصورات والمشاريع المجتمعية المتباينة.
ثانياً:تشكل خريطة طبقية ومجتمعية تعددية تعكسها تركيبة سياسية وحزبية متنوعة .فلقد قامت الديمقراطيات الحديثة في مجتمعات صناعية سمتها الرئيسية هي قسمة العمل بما تفضي إليه ضرورة من تضارب في المصالح والرؤى في ما وراء الدوافع والخلفيات العقدية والفكرية الجامعة. وتعود ثنائية اليمين واليسار، التي لا تزال تؤطر الحراك السياسي في الديمقراطيات المعاصرة إلى هذه الجذور الاجتماعية.
ثالثاً:تشكل مجال متزايد الاتساع للمنافع العمومية المشتركة يدار بآليات توافقية إجماعية خارج محددات ورهانات الصراع السياسي القائم حول السلطة. ومن هذه المنافع العمومية ما يتعلق بالبنية البيروقراطية الإدارية للدولة الحديثة التي تتميز بما دعاه عالم الاجتماع الألماني "ماكس فيبر" بالشرعية العقلانية الكلية، التي تكرس تجرد وتميز سلطة الدولة عن الحكم الشخصي الفردي.
ولا شك أن هذه الضمانات لا تزال هشة وضعيفة في سياقنا العربي المتحول. فالنقاش العمومي حول الأفكار والقيم تعترضه معوقات كبرى ويخشى عليه من التراجع في بعض الساحات، كما هو شأن تونس مثلًا التي شهدت في الأشهر الأخيرة مضايقات خطيرة لحركة الإبداع الفكري والثقافي. كما أن الخريطة المجتمعية تفتقد للموازين الطبقية الثابتة المؤطرة للعمل السياسي، مما يجعلها ساحة خصبة للدعوات المتطرفة والنزعات الشعبوية المدمرة. يصدق القول نفسه على حقل المنافع العمومية، الذي لا يزال يتداخل بخطورة مع السلطة الفردية، ويخشى عليه من تأثير وتدخل المعطيات السياسية الظرفية (تحكم الحزب الفائز في هياكل الدولة).
ومن هنا حساسية وأهمية دور الإعلام الحر (العمومي والخاص) في سد هذه الثغرات الخطيرة على مسار التحول الديمقراطي في البلدان العربية ذات الأوضاع الانتقالية.
يؤدي الإعلام دوراً محورياً في حركية النقاش العمومي، وفي بعض الساحات (كما هو شأن مصر في السنوات الأخيرة من عهد مبارك)، يغدو بالفعل السلطة المضادة الوحيدة وخط الدفاع المتبقي ضد الاستبداد والطغيان.
إنه الدور المطلوب اليوم في مواجهة خطرين كبيرين يتهددان الديمقراطيات العربية الوليدة: تحول الأغلبيات الحزبية الجديدة إلى أحزاب دولة مهيمنة على غرار التشكيلات الحاكمة في العهد الاستثنائي، و"صناعة التواطؤ"(حسب عبارة تشومسكي) عن طريق هيمنة اللون الإيديولوجي والفكري الواحد عبر منافذ التعددية الإعلامية المتاحة (التعدد دون تنوع واختلاف).
في الديمقراطيات الغربية العريقة تم استحداث هيئات ضبط وتنظيم مستقلة للحقل الإعلامي لإخراجه من تجاذبات السياسة حماية لحرية التعبير التي هي المحدد الرئيس من محددات الديمقراطية التعددية.
وفي "ديمقراطيتنا" الوليدة برزت مؤشرات واضحة على الميل لتطويق الحريات الإعلامية في سياق يشهد اختلالاً خطيراً في الموازين الفكرية والإيديولوجية لصالح لون واحد، مما يجعل الدفاع عن استقلالية الإعلام المعركة الحاسمة في الظرف الراهن.

عن جريدة الاتحاد بقلم د. السيد ولد أباه